القوة الاقتصادية للرياضة وفرص استراتيجية

0

د. علي محمد الخوري

مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي

ع+ ع-

 

 

تطوَّرت الرياضة، التي كانت منذ مدَّة قريبة مقتصرة على الملاعب والساحات بصفتها وسائل ترفيهية مُجردة، إلى قوة دفع اقتصادية أصبحت تسهم في إنشاء فرص عديدة لتنمية الإيرادات الوطنية، وتحفيز الاستثمارات، ونمو أسواق العمل والتوظيف. وأدت العلاقة التكافلية بين الرياضة والاقتصاد إلى اهتمام الدول الأوروبية -منذ عقود- باقتصاد الرياضة بصفتها قاطرة اقتصادية واجتماعية، وأثارت أخيراً شهيَّة استثمارات الدول الخليجية التي تسعى بتطلعاتها المستقبلية إلى تعزيز سياسات التنويع الاقتصادي، ودعم نمو القطاعات غير النفطية فيها.

الآفاق السوقية المتنامية

أصبح الحجم الاقتصادي للرياضة العالمية مثيراً نوعاً ما، وبات يخطف أنفاس مجتمع المال، وكشفت دراسة أعدَّها الاتحاد الأوروبي لتحليل الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالرياضة قبل 10 سنوات، أن حصة الرياضة في القيمة المضافة الإجمالية قد تصل إلى 2 في المئة من الناتج الإجمالي، وبآثار مضاعفة قد تبلغ 3 بالمئة في قطاعات مثل الترفيه والثقافة والتعليم والفنادق والمطاعم، إلى جانب النمو النسبي في معدلات التوظيف، فضلاً عن كون الرياضة محركاً لتعزيز التقارب والنمو الاقتصادي في دول الاتحاد الأعضاء.

ووفقاً للإحصائيات الحديثة الصادرة عن شركة البحوث والأسواق (Research and Markets)، فإن من المتوقع أن تنمو سوق الرياضة العالمية إلى أكثر من نصف تريليون دولار العام الجاري (2023)، وتصل إلى 624 مليار دولار في عام 2027 بحسب توقعات السيناريوهات المتحفظة. وتشمل هذه الأرقام تكاليف وعوائد إنتاج وتنظيم الأنشطة الرياضية، والإيرادات المباشرة من مصادر مثل حقوق البث والرعاية والتذاكر والمنتجات ومبيعات الأجهزة الرياضية ومراكز التدريب وغيرها. ولا توجَد إحصائيات دقيقة بشأن التأثير الإيكولوجي الممتد لهذه الصناعة في القطاعات الأخرى، كالضيافة والتجزئة والسياحة، وفي ذلك دليل على الدور المتزايد لهذه الصناعة في المجتمعات الحديثة، التي أصبحت تزدهر فيها صناعة الرياضة، وتجذب استثمارات كبيرة بصفتها «ماكينة» الإيرادات المالية التي لا يمكن لأحد تجاهلها.

الأرقام تكشف عن الحقائق

دعونا نتفحص مزيداً من الإحصائيات التي تؤكد أن صناعة الرياضة أصبحت من القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، وأن الرياضة تجاوزت كونها لعبةً ومشجعين فحسب، ولنأخذ كرة القدم مثالاً هنا، فهي اللعبة التي يشجعها أكثر من 3.5 مليار شخص في جميع أنحاء العالم، وبقاعدةِ لاعبين تصل إلى 250 مليون لاعب مُسجّل على الأقل في 200 دولة. وتحظى كرة القدم العالمية بحجم سوق عالمي مثير قُدر بنحو 36 مليار دولار في عام 2021، مع توقعات بارتفاعه إلى نحو 45 مليار دولار بحلول عام 2025.

وبحسب تقرير صادر عن شركة «ديليوت» (2023) تجاوزت الإيرادات المجمعة لأفضل 20 نادياً لكرة القدم في موسم 2021/2022 نحو 10 مليارات يورو، مقارنة بنحو 8 مليارات يورو في الموسم الذي سبقه. أضفْ إلى ذلك الإمكانيات المحفزة للأسواق الاستهلاكية في مختلف القطاعات، من البضائع والملابس إلى الترفيه والطعام والسياحة.

قطاع الوظائف وفرص ريادة الأعمال

إذا ما تعمَّقنا بالتحليل قليلاً، فسنجد أن العلاقة التماثلية بين الرياضة والاقتصاد يمكن أن توفر عدداً كبيراً من فرص العمل عبر سلسلة القيمة الخاصة بها، إلى جانب تحفيز المشروعات الريادية، من الأكاديميات الرياضية ومنشآت التدريب إلى البضائع والمنتجات الرياضية والمنصات الرقمية الخدمية أو ذات الطابع السلعي. ووفقًا لتقرير «مؤسسة الجولف الوطنية» في الولايات المتحدة، كان للعبة الجولف تأثير اقتصادي مباشر بقيمة نحو 102 مليار دولار في الاقتصاد الوطني عام 2022، وفي حال احتساب التأثيرات غير المباشرة والثانوية للجولف، قد يرتفع الإجمالي إلى أكثر من 226 مليار دولار.

وما يجب إدراكه هو أن قاعدة المشجعين العالمية للرياضات والبطولات تخلق أسواقًا استهلاكية لمختلف المنتجات والخدمات، وتدعم الشركات المحلية، وتقود مسارات تجارية واستثمارية جديدة دافعة لعجلة النمو الاقتصادي.

وتشير التقديرات إلى مساهمة بطولة كأس العالم (فيفا) بنحو 17 مليار دولار في الاقتصاد القطري عام 2022، وإيجاد 470 ألف فرصة عمل. وعلى الرغم من السجال حول قيمة المشروعات التي نفذتها، وتجاوزت قيمتها 220 مليار دولار، فإن الرواية الأخرى تؤكد أن هذه المشروعات تُعد -ضمن أجندات وخطط مستقبلية- نافذة اقتصادية تنتظر التفعيل.

وعلى الصعيد الوطني تتمتع البطولات المحلية بتأثير اقتصادي كبير أيضًا، وقد يكون الدوري الإنجليزي الممتاز مثالًا جيدًا هنا، إذ بلغ إسهامه بنحو 7.6 مليار جنيه إسترليني في الاقتصاد البريطاني في موسم 2019-2020، وأوجد نحو 100 ألف وظيفة.

مشهد الاستثمارات الخليجية

أفاد تقرير نشرته «بي دبليو سي»، في عام 2021، بأن دول الخليج مجتمعةً استثمرت أكثر من 65 مليار دولار لتطوير قطاع الرياضة فيها، مع توقع استمرار معدلات النمو السريعة في هذه الدول. ولم تتركز الاستثمارات الخليجية على بناء الملاعب الحديثة، واستقطاب الرياضيين الدوليين فحسب، بل شملت دفع البطولات الرياضية في المنطقة إلى الساحة العالمية، وترويجها في الإعلام الدولي بصفتها مناطق جاذبة للسياحة والمعيشة.

المسار الريادي لدولة الإمارات

كانت دولة الإمارات العربية المتحدة -كعادتها- رائدةً في إدراك القوة التحويلية للاستثمار الرياضي، الذي اتَّضح من إنشائها 24 اتحادًا رياضيًّا نجحت في تنظيم العديد من البطولات المحلية والإقليمية والدولية. وتشير إحصائيات عام 2021 إلى أن قطاع الرياضة أسهم بنحو 2.4 مليار دولار في اقتصاد دبي، ووفَّر أكثر من 110 آلاف فرصة عمل تمثل 4 في المئة من إجمالي سوق العمل في الإمارة.

التحول النموذجي للمملكة العربية السعودية

وتسعى المملكة العربية السعودية لتضخيم استثماراتها الرياضية، ولا سيَّما في كرة القدم. وتؤكد «رؤية 2030»، وهي خريطة الطريق الاستراتيجية الوطنية، أهمية تطوير قطاع رياضي مستدام عن طريق خصخصة الأندية الرياضية، وتحسين الحوكمة الإدارية والمالية. وتشير بعض التقارير إلى أن المملكة تستهدف وضع دوري كرة القدم فيها ضمن أفضل 10 بطولات للدوري في العالم، ورفع إيرادات رابطة الدوري السعودي للمحترفين من 450 مليون ريال إلى أكثر من 1.8 مليار ريال سنويًّا، إلى جانب رفع القيمة السوقية للدوري السعودي للمحترفين من ثلاثة مليارات ريال إلى أكثر من ثمانية مليارات ريال.

دمج الرياضة والسياحة والاقتصاد

تؤكد البحوث، التي أجرتها جامعة «سيراكيوز» الأميركية، كيفية قيام الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بدمج الاستثمارات الرياضية لتحقيق أهداف التنويع الاقتصادي الأوسع، فإلى جانب النهضة الرياضية حفزت استراتيجية الاستثمار هذه نهضة سياحية موازية عن طريق جذب أندية وفِرق كرة القدم الدولية إلى معسكرات تدريبية في هاتين الدولتَين، ليس بصفتها سياسة رياضية فحسب، بل لتعزيز الأهداف الاقتصادية والتنمية الشاملة الطويلة الأجل.

مقترحات السياسات العامة والاستثمارات

في الوقت الذي تبحث فيه الدول عن وسائل لدعم اقتصاداتها، يظهر قطاع الرياضة بصفته قطاعًا ممتلئًا بالإمكانيات غير المستغلة في المنطقة العربية، ويمكن لصانعي السياسات والمستثمرين الاستفادة من هذه الإمكانيات بتبني الاستراتيجيات المُتبصرة التي تضمن النمو المستدام في هذا القطاع المتنامي. وتتمركز السياسات الحكومية هنا بصفتها حلقة محورية، وعاملًا تمكينيًّا لا يمكن إغفاله في هذا السياق.

وينبغي أن تمنح الاستراتيجيات الوطنية استثمارات تطوير البنى التحتية للمرافق والمجمعات الرياضية الأولوية، وأن يتزامن ذلك مع بناء الشراكات بين القطاعَين العام والخاص والجمعيات الأهلية لتحفيز الاستثمار الخاص لتمويل المشروعات الرياضية وتسريعها. ويجب أن تركز هذه الاستراتيجيات أيضًا على إنشاء بيئات تشريعية وتنظيمية مواتية للمستثمرين، لإقامة المشروعات التي تخدم مستهدفات تحفيز النمو الاقتصاد الوطني، ويمكن معها أن يمتد نطاق الشراكات لتفعيل وتنمية السياحة الرياضية، التي تخدم أهداف استضافة الأحداث الدولية، وتنشط الترويج السياحي، وتدعم مجتمع الأعمال المحلي، وتخلق فرص عمل، ولتمثل القوة الناعمة التي يمكن معها بناء صورة إيجابية في الساحة العالمية، وتمثّل أرضية مساندة لتطوير الشراكات والتحالفات ذات المصالح الاقتصادية المشتركة.

ومع أن من المهم أن تتضمَّن السياسات الوطنية محور إشراك الشباب والاستثمار في برامج التربية الرياضية وعلوم الرياضة لتنمية المواهب المحلية من جهة، فإنَّ الأهم هو تعزيز المشاركة المجتمعية، وإعلاء الهُوية الوطنية، وترسيخ القيم والمبادئ الأخلاقية والمواطنة الإيجابية.

ويمكن للتطبيقات التكنولوجية أن تحسن إدارة الفعاليات وتسويقها، وتعزز قنوات الاتصال وتجربة المشاهدة، وتوجِد مصادر جديدة للإيرادات من المنصات الرقمية والتجارب التفاعلية، كما يمكن أن تُمثل المناهج التعليمية وسيلة تمكينية مساندة لتطوير القدرات المعرفية والتكنولوجية والكفاءة المهنية في القطاع.

وأخيرًا وليس آخرًا، من الأهمية بمكانٍ التركيز على مبادرات الاستدامة في المشروعات الرياضية، ورسم السياسات الصديقة للبيئة في المنشآت والمرافق، والحد من التأثير البيئي عن طريق الممارسات والإشراف المسؤول على الموارد، وخاصة إذا ما أخذنا في الحسبان القاعدة الإنتاجية والاستهلاكية الضخمة في القطاع.

وباختصار شديد: يجب أن يُنظر إلى اقتصاد الرياضة بصفته أداةً مؤثرة لتحقيق المستهدفات التنموية وتعزيز القيم والمشاركة الاجتماعية، يمكن معها تشكيل الصورة الذهنيَّة عن الدول وثقافاتها، وترسيخ المفاهيم، والاتصال مع قاعدة جماهيرية دولية قد لا تكون ممكنة في غيرها من الوسائل. وهنا يمكن استخدامها وسيلةً لتكريس لغة السلم والتسامح والتفاهم الثقافي، ومنصةً للتعاون والتلاقي بين الشعوب. وأمام الدول العربية فرصة لتسخير القوة الاقتصادية والاجتماعية لصناعة الرياضة، ليس بصفتها مصدرًا للعوائد التجارية فحسب، بل وسيلة للإلهام والتنافسية والقوة الناعمة.

*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربي

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.