العشي يكتب:عيد العمال في زمن الروبوتات: من يحتفل بمن؟

0

 


بقلم الإعلامي الدكتور محمد العشي

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتنافس فيه العقول على اختراع الجديد، يبقى الأول من أيار، عيد العمال، ثابتًا في وجدان الشعوب، كصوتٍ إنسانيٍ نقيّ يذكّر العالم بقيمة الجهد، وبعظمة من يصنع الحياة بيديه. إنه أكثر من مناسبة سنوية، إنه مرآةٌ تعكس وجه المجتمع الحقيقي، وعدالته الاجتماعية، ومدى احترامه للعامل كعنصر أصيل في معادلة النهضة.

العمل ليس مجرد وظيفة، بل هو انتماء، رسالة، وإرث تتناقله الأجيال. العامل الحقيقي لا يُقاس بزمن الدوام ولا بأرقام الحوافز، بل بقدرته على الصبر، وعلى مواجهة التحديات اليومية بابتسامةٍ صادقة، وبإيمانٍ راسخ أنّ كل مسمارٍ يدقه في جدارٍ أو كل كلمةٍ يخطّها في تقرير، إنما تبني وطنًا.

وفي ظلّ هذا اليوم، تتجه الأبصار إلى العمّال في مختلف الميادين؛ في المصانع، وورش البناء، والمزارع، والمؤسسات، والمستشفيات، والمطارات. أولئك الذين لا يعلو صوتهم في المهرجانات، لكنهم من يصنعون صمت الإنجاز بعرق الجبين.

لكنّ السؤال الذي بات يُفرض بقوة في زمننا هذا: ماذا عن الغد؟
هل سيبقى للعامل مكانٌ وسط زحف الذكاء الاصطناعي وانتشار الروبوتات في خطوط الإنتاج والمصانع والمكاتب؟ هل سيُحتفل مستقبلًا بعيدٍ بلا عمّال؟ لقد بدأت الماكينات الذكية تحلّ تدريجيًا محل الإنسان في كثيرٍ من القطاعات، ومعها بدأت بعض المهن التقليدية بالاندثار، وظهرت وظائف جديدة تتطلب مهارات مختلفة.

ومع هذا التحوّل، لا يجب أن يكون الحديث عن الروبوتات مخيفًا، بل محفزًا لإعادة النظر في مستقبل العمل. الإنسان لن يُستبدل بسهولة، لأنه وحده من يملك الوعي، القيم، الحدس، والتعاطف. وهذه عناصر لا تصنعها أي آلة. المطلوب اليوم هو أن نستثمر في الإنسان نفسه، أن نعيد تأهيله، ونمنحه أدوات العصر ليبقى فاعلًا في كل معادلة تكنولوجية مستقبلية.

وعيد العمال، إن استمر بوعيه وفلسفته، لن ينقرض، بل سيتحوّل. سيصبح يومًا يحتفي بمن يعرف كيف يتعامل مع الآلة، بمن يحوّل التكنولوجيا إلى فرصة، لا تهديد. الاحتفال لن يكون فقط باليد التي تبني، بل بالعقل الذي يطوّر ويبتكر ويُشرف على أنظمة التشغيل الرقمية.

وفي الأردن، كما في سائر البلاد العربية، يواجه العمال تحديات مركّبة، تبدأ من الحقوق وتنتهي بفرص المستقبل. والعدالة الاجتماعية ليست ترفًا، بل ضرورة وطنية لبناء دولة حديثة. علينا أن نضع العامل في صلب السياسات الاقتصادية، وأن نعيد ترتيب الأولويات، لنحفظ لهذا الإنسان مكانته، كركيزةٍ لا يمكن التفريط بها.

ومن منبرنا الإعلامي، فإنّ مسؤوليتنا لا تقتصر على تغطية الاحتفالات، بل تتعداها إلى نقل صوت العامل، ومعاناته، وطموحه، وإيصال رسالته إلى مراكز القرار. الإعلام الحقيقي هو الذي ينتصر للحق، ويقف إلى جانب من لا يملك منبرًا ولا ميكروفونًا.

وأمام هذا المشهد المتشابك بين اليد والعقل، بين العرق والآلة، يبقى العامل هو البطل الحقيقي. لا يُنهي عمله بنهاية الدوام، بل يبدأ من هناك. يحتفل بإنجازه بالصمت، ويكتفي أن يرى النتيجة بعينه دون الحاجة إلى التصفيق.

كل عام والعمال بخير…
كل عام ونحن أكثر وعيًا بأهميتهم، وأكثر التزامًا بحقوقهم، وأكثر إيمانًا بأنهم أساس الحاضر، وبوصلتنا إلى المستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.