المفكر السياسي الدكتور محمد وليد يوسف

0

 

هو رئيس المركز الدولي للدراسات الجيوسياسية و الاقتصادية وهو مفكر سياسي و مؤرخ له العديد من الكتب منها

١- جوهر النظام الدولي
٢- القوانين السياسية المادية
٣-أزمة الدولة في العالم الاسلامي
٤- تاريخ الادارة و بنى الدولة في الاسلام
٥- الأشاعرة والمجتمع والدولة
٦- مبادئ السياسة و قواعد الحكم في الاسلام
٧- المال في الاسلام

كانت العرب تسمي فارساً والروم الأسدين قبل ظهور الاسلام، وذلك لقهرهما شعوب وأمم منطقة الشرق الأوسط وغلبتهما على الساحة الجيوسياسية في العراق وسورية والشام ومصر وجزيرة العرب واليمن والبحر المتوسط، وتقاسم النفوذ الحصري على دائرته الجيوسياسية، فكان كسرى فارس يستعمل الولاة والعمال على الأقاليم الواقعة في دائرته الحصرية ويعزلهم ويستعمل غيرهم، وينشر فيها حاميات عسكرية تدعى المسالح عليها قادة من الجيش الفارسي، فكان يستعمل ولاة على الحيرة بالعراق وعلى اليمن وعلى البحرين، وعلى اليمامة وعلى عُمان. وكذا كان الأمر للروم حيث وقعت سورية وبلاد الشام ومصر والبحر المتوسط في دائرة نفوذها الحصريَّ، وكانت القسطنطينية تستعمل وتعزل الولاة على دمشق وحلب ومصر والأردن وفلسطين وقبرص وغيرها، وتنشر الكتائب والحاميات العسكرية عليها قادة من الروم، ومكث الأمر على ذلك في النظام الاقليمي في تلك الدورة التاريخية من النظام الدولي حتى ظهور الإسلام، ويذكر المؤرخ ابو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن أول خليفة للمسلمين أبا بكر الصديق أرسل جيشاً إلى العراق عليه خالد بن الوليد وأربعة ألوية إلى الشام عليها ابو عبيدة عامر بن الجراح، فأبطأت عليه الرسل التي تحمل أخبارهم إليه فأضجره ذلك، فجاءه وهو على هذه الحال جرير بن عبد الله البجلي يسأله أن يزيد في عطاء قومه، فأغضبه سؤاله فزجره وقال: أتسألني ذلك ونحن بإزاء الأسدين فارس والروم. ولم يزل الأمر كذلك حتى مات أبو بكر وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب بعد عهد أبي بكر إليه، فكان أول ما صنع أن ندب الناس لقتال فارس بالعراق فلم ينتدب منهم أحد، فجعل ينتدبهم ثانية وثالثة ويأبون عليه حتى عزم عليهم عزمة شديدة، وذلك لأن فارساً كانت أشد الوجوه عليهم لشدة شوكتهم وغلبتهم وقهرهم الأمم.

ولم يزل الأمر كذلك والفرس والروم ينشرون نفوذهم في الشرق الاوسط، ويجردون الحملات العسكرية على بعضهم، ويهيمنون على النظام الإقليمي ويعيدون تركيب وتشكيل الدوائر الجيوسياسية في المنطقة فيستعملون الولاة والحكام في أقاليم المنطقة ويعزلونهم ويخلعونهم متى أرادوا، ويقسمون بعض الأقاليم الى أقاليم أصغر، ويستعملون عليها حكاماً جدداً، ويضمّون بعضها الآخر إلى بعض ويجعلونها تحت إمرة حاكم واحد، ويعزلون من يخرج على طاعتهم أو يقتلونه، وذلك بسائق من سيادتهم على ذلك النظام وكونهما قطبين فيه وامتلاك جيشين مجهزين بسلاح ثقيل وعتاد متوسط وخفيف لتنفيذ استراتيجياتهما العسكرية لبلوغ مقاصدهما السياسية في بث سيطرتهما وتحكمهما في إقامة امبراطوريتَيْهما اللتين بلغتا موقع القطبين الدوليين في تلك الدورة التاريخية، إلى أن عجزتا عن حفظ الموارد اللازمة لاستدامة المنزلة العالمية، واقترن ذلك بصعود الامبراطورية الاسلامية منذ عهد عمر بن الخطاب حين اجتمعت موارد إنشاء قطب اقليمي بعد تأسيس جيش كبير توزّع على جبهات العراق وبلاد الشام ومصر، وشرع في تغيير جيوسياسي جذري في الشرق الأوسط لإعادة تركيب المنطقة وتشكيلها بإزالة دائرة النفوذ الحصرية للامبراطورية الفارسية واحتواء النفوذ البيزنطي وتضييق دائرة سيطرة القسطنطينية إلى حدودها الدنيا من دون إزالتها لعجزها عن ذلك مدة عدة قرون. فاستولت الامبراطورية العربية الاسلامية الناشئة على معظم الساحة الجيوسياسية الشرق أوسطية، وصعدت إلى منزلة القطب الإقليمي المهيمن والمكافئ للامبراطورية الفارسية او الامبراطورية البيزنطية، قبل أن تسيطر على شمالي افريقيا ووسط آسيا وتبلغ حدود الهند والصين لاحقاً وتصعد إلى موقع قطب دولي في دورة تاريخية من النظام الدولي، وتقوم بإعادة التشكيل الجيوسياسي العالمي وإعادة تركيب العلاقات بين الامبراطوريات والمماليك عصرئذ.

لقد انتقل صنع القرار السياسي من فارس ومن القسطنطينية بشأن الوقائع في الشرق الأوسط إلى حاضرة الامبراطورية الاسلامية مدةً من الزمن. وبعدما كانت أحكامهما تسري في دائرتَيْ نفوذهما من غير منازعة ولا مراجعة سرت أحكام وقرارات المدينة أو دمشق أو بغداد لمدة من الزمن على دائرة النفوذ الجيوسياسية الحصرية للامبراطورية الجديدة.

إن بناء المشروع الجيوسياسي وصنع الاستراتيجيات اللازمة وامتلاك الأدوات والوسائل لبلوغ الغايات والمقاصد النهائية شروط لازمة وكافية للنهوض الاقليمي والعالمي.

وكما تصنع الخصائص والعوامل السابقة القوى والاقطاب الاقليمية والدولية الصاعدة، فإن غياب تلك العوامل سائقٌ إلى وهن تلك القوى والأقطاب وهوانها وخروجها من منزلتها.

وعند النظر والتمحيص في الوقائع السياسية في الشرق الأوسط فإنّ عين الراصد لا تخطئ عودة الأسدَيْن فارس والقسطنطينية (استانبول) إلى موقعَيْ القطبين الاقليميين وبلوغ منزلة صنع القرار فيها وسريان أحكامهما السياسية والاستراتيجية على بعض البلدان فيها مع سعي حثيث منهما لإقامة دائرة نفوذ حصرية تتبع كل طرف منهما، وآية ذلك دائرة النفوذ والحلفاء التي أقامتها إيران خلال ثلاثة عقود في العراق وسوريا ولبنان واليمن وعُمان وغزة، حيث يتعاضد ويتمالأ حلفاؤها معها في تنفيذ استراتيجياتها، وتمضي معها في سعيها لمقارعة منافسيها وخصومها في المنطقة وخارجها. وكذلك فإن تركيا تقوم بإنشاء دائرة نفوذ حصرية في المنطقة، وإن كانت متأخرة عن إيران في ذلك، إلا أنها تسعى بشدة لبلوغ ذلك ودليل ذلك نفوذها في قطر وليبيا وأذربيجان وشمالي قبرص وشمالي سورية وشمالي العراق، رغم اخفاقها في اتمام مشروعها الجيوسياسي بعد احباط سعي الإخوان المسلمين في السيطرة على السلطة في مصر وتونس والسودان واليمن، واخفاق مشروعها في سوريا، ولو افلحت في سعيها وبلغت مقاصدها في تلك البلدان لأحكمت سيطرتها في دائرة نفوذها الحصرية، وتبوأت منزلة القطب الاقليمي من غير منازعة ولا مدافعة عنها. إلا أن اخفاقها في إدراك مقصدها هناك أبطأ بها عن إيران التي تسبقها في صعودها إلى موقع القطب الإقليمي.

وإن أنكر معترضٌ قياس صعود إيران وتركيا في النظام الاقليمي الشرق أوسطي حالياً على هيمنة الأسدَيْن فارس والروم قبل ظهور الاسلام، بمباينة إيران الفارسية الساسانية الكسروية لإيران المسلمة اليوم، وكذا التمايز بين القسطنطينية يومئذ واستانبول اليوم. فإننا نقول: إن كان قد اختفى الروم عن القسطنطينية فقد خَلَفَهم سلاجقة الروم في استانبول، وإن مشروع إيران الاسلامية الشيعية مناقض للمشروع الاسلامي السني السلفي القائم في جزيرة العرب ولعله أشدّ تنافراً بين إيران الساسانية وعرب الجاهلية، وآية ذلك أن الحروب والمعارك بين المشروع السياسي الشيعي والمشروع السياسي السني أضعاف أضعاف الحروب والمعارك بين إيران الساسانية وعرب الجاهلية قبل الاسلام، ولم يبدل اعتناق فارس للمذهب الشيعي المشروع الجيوسياسي لإيران الساسانية في الشرق الأوسط عن مشروع إيران الاسلامية الشيعية.

وكذا الأمر فإن المشروع الجيوسياسي لسلاجقة الروم في استانبول أشدّ حرصاً على نشر النفوذ وإقامة دائرة الهيمنة والسيطرة في الشرق الأوسط والبحر المتوسط وشمالي افريقيا ووسط آسيا والبلقان حالياً من روم القسطنطينية في بناء امبراطوريتهم تاريخياً.

ولعلنا نقيم الأدلة وننصب البراهين فيما يلي على عودة الأسدَيْن من جديد لبناء دائرة نفوذ حصرية لكل طرف منهما ينشر فيها هيمنته مع سعي لإعادة تشكيل جيوسياسي للمنطقة مقترناً بتراجعٍ وضعفٍ استراتيجي للبلاد العربية في الخليج، وكذلك الأردن ومصر وغيرهما، مع تهافت منها على استمالة إيران وتركيا وبذل المال والاستثمارات الطائلة لدفع الأذى أو استدراج الرضى والقبول.

ولعلّه من نافلة القول ذكر دائرة التحالف الإيراني التي تشمل العراق وسورية ولبنان واليمن وغزة، وقد بذلت إيران في سبيل اقامتها المال والدماء، حيث انفقت مليارات الدولارات خلال ثلاثة عقود على دعم وتسليح وتدريب مقاتلي حزب الله في لبنان وحركة أنصار الله (الحوثيين في اليمن) والأحزاب والحركات الشيعية في العراق ومقاتلي حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس في غزة. ولما بدأت الحرب في سوريا منذ عام 2012 أصابت إيران فرصة جديدة للوجود العسكري والفيزيائي المادي في ساحات القتال ضد مقاتلي المعارضة السورية حتى إذا هزمتها مع الجيش السوري وبمساندة جوية روسية استمالت سورية إلى دائرة تحالفها ونفوذها، حتى إذا ظهر تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) بذلت إيران المال والدم وافرغت جهدها لتأسيس الحشد الشعبي وتدريبه وتسليحه ليكون قوة مكافئة للجيش العراقي في قتال داعش منذ عام 2015 في السيطرة على المحافظات السنية العراقية في الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى.

إن كان ما سبق من نافلة القول ومعلوماً بالضرورة لكل راصد سياسي في سعي إيران إلى بناء دائرة النفوذ الحصرية وإعادة التركيب الجيوسياسي للشرق الاوسط بعد غزو الولايات المتحدة للعراق واسقاط نظام صدام حسين عام 2003 توطئة لعودة الأسد الإيراني إلى سابق عهده قبل الاسلام في صنع القرار في منطقة الخليج وجزيرة العرب وشطر من الشرق الأوسط فإن سعي الأسد الرومي كان خفياً أو لم ينتشر النكير عليه بسائق من المذهب السني الحنفي الذي تعتنقه تركيا بخلاف إيران الشيعية التي شاع وفاض النكير على سعيها الجيوسياسي، رغم أن التوسع التركي لا يقل قسوة وشدة وإراقة للدماء وتدميراً للبلدان من الاستراتيجية الإيرانية إلا أن المذهب يشفع عند بعضهم لتركيا ما تصنعه من سعي توسعي استراتيجي مكافئ للاستراتيجية الايرانية.

لقد شاع القول عن عزم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إعادة بعث السلطنة العثمانية واحياء الرابطة الاسلامية السياسية بقيادة تركيا الحالية مع بدء الأزمات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية عام 2011 التي أيقظت تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية من غفلتها التاريخية التي دخلتها منذ زوال السلطنة العثمانية وظهور الدولة التركية الحديثة عام 1924.

والحقيقة أن تركيا منذ عام 2011 بقيادة أردوغان جنحت إلى احياء الامبراطورية السلجوقية من رقادها التاريخي وليس بعث السلطنة العثمانية، وذلك بسعي مزدوج في انشاء أسرة الدول التركية عام 2009 التي ما لبثت أن أصبحت منظمة الدول التركية منذ عام 2020، وعقدت عدة مؤتمرات قمة آخرها في عام 2023 وتضم الجمهوريات التركية في وسط آسيا (كازاخستان وأوزباكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وأذربيجان) مع تركيا وشمالي قبرص، مع إعادة السيطرة وتشكيل العلاقات الجيوسياسية مع تونس ومصر في عهد حكم حركة النهضة والاخوان المسلمين منذ عام 2011 والسعي الى جمع الدعم العالمي للتنظيمات والحركات الاسلامية في سوريا والعراق منذ عام 2012 لبلوغها السلطة فيهما.

وبِهَدْيٍ من التاريخ السلجوقي سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دفع الجيش التركي للسيطرة على مدينة حلب السورية ومدينة الموصل العراقية والسيطرة على المحور الجيوسياسي الاستراتيجي الواصل بين هاتين المدينتين، حيث يكشف الاستقراء التاريخي منذ عهد الصراع بين الأسدَيْن الفارسي والرومي قبل الاسلام عن سعي كل طرف منهما بسط سيطرته على مدينتي حلب والموصل (نينوى).

كما يكشف الاستقراء التاريخي عن حقيقة جيوسياسية تقوم في أنه كلما سيطر طرف على المحور الاستراتيجي الرابط بين هاتين المدينتين نشر نفوذه على العراق والشام، حيث أن حلب بوابة أو قفل الديار الشامية والموصل بوابة أو قفل العراق، وقد سيطر الأمويون على الشام والعراق بعد سيطرتهم على حلب والموصل في عهد معاوية بن أبي سفيان، ولما بدأت الدعوة العباسية واستولى جيش عبد الله بن علي على الموصل وحلب وانسحب جيش مروان بن محمد- آخر حكام بني أمية- منهما وسقط هذا المحور الجيوسياسي بيد العباسيين أقبلت الدنيا والامبراطورية عليهم وأدبرت عن الأمويين حتى هلك أكثرهم.

وكذا الأمر فإن البويهيين والحمدانيين الشيعة حين استولوا على الموصل وحلب قامت دولة الشيعة في الشام والعراق وجزيرة العرب كما يقول المؤرخ الذهبي في كتابه تاريخ الاسلام.

ولما سيطر جيش الخليفة المستنصر الفاطمي في مصر على حلب والموصل بين عامَيْ (447- 450)هـ الموافق لـ (1055- 1058)م وبسط نفوذه على المحور الاستراتيجي بينهما لم يلبث جيش المستنصر الفاطمي بقيادة البساسيري أن دخل بغداد وسيطر عليها وهرب منها الخليفة العباسي القائم بأمر الله عام 450 هـ الموافق لعام (1058-1059)م وجعل الخطبة في جوامع بغداد قاطبة للمستنصر الفاطمي.

ولما أراد السلاجقة الاتراك قطع دابر النفوذ الفاطمي والسيطرة على العراق والشام بدأوا بالموصل وحلب والسيطرة على المحور الجيوسياسي الاستراتيجي الرابط بينهما فاستولى طغرلبك أول سلطان سلجوقي على الموصل سنة 451 هـ الموافق (1059- 1060)م واستولى السلطان ألب أرسلان على حلب عام 463 هـ الموافق لعام (1070- 1071)م واخذها من شبل الدولة المرداسي ثم استولى سليمان بن قتلمش السلجوقي على قونية في حدود عام 479 هـ الموافق عام (1086-1087)م ونشأت من مثلث حلب- الموصل- قونية الامبراطورية السلجوقية الكبرى في عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان وبلغت ذروة اتساعها في عام 485 هـ الموافق لعام (1092-1093)م في عهد الوزير نظام الملك (المتوفى سنة 486 هـ) أكبر وزراء العهد السلجوقي، وامتدت الامبراطورية السلجوقية من كاشغر داخل الصين شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن قونية وأنقرة شمالاً وحتى اليمن جنوباً.

ولما أراد صلاح الدين الأيوبي إزالة الدولة النورية السلجوقية لم يتم له ذلك إلا بعد 10 سنين من موت السلطان نور الدين بن زنكي عام 569 هـ الموافق لـ (1173-1174)م حين أخذ حلب عام 579 هـ الموافق لعام (1183-1184)م عنوة من الملك الصالح ابن السلطان نور الدين ثم صالح صاحب الموصل الملك سيف الدين غازي بن مودود ثم بسط سيطرته على منبج والرقة والرها وحران ورأس العين وميافارقين على المحور بين حلب والموصل.

ولما أراد الرئيس التركي اردوغان احياء الامبراطورية السلجوقية عزم على أخذ حلب منذ عام 2012 وعلى دفع الجيش التركي لدخول الموصل منذ عام 2014 بحجة ضرورة اشراك جيشه في تحرير الموصل من داعش على يدي جيش سني وليس الحشد الشعبي الشيعي لمنع وقوع فتنة طائفية بين الفريقَيْن، ولم يزل يطالب الولايات المتحدة بأمرَيْن اثنين:

أولهما- مشاركة الجيش التركي في تحرير الموصل حتى معركة تحريرها (2017- 2018).

ثانيهما- إقامة منطقة حظر طيران أو منزوعة السلاح في حلب وشمالها حتى الحدود مع تركيا.

وكان القصد من هذين الأمرين السيطرة على مدينتي حلب والموصل والمحور الاستراتيجي بينهما.

غير أن الولايات المتحدة الامريكية أبت عليه ذلك حتى كان في آخر عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2016 فأصاب اردوغان منهم غِرَّة فتواطأ مع الروس فجرد حملته العسكرية الأولى داخل سورية واحتل مدينة جرابلس والباب واعزاز، واستولى في حملته الثانية في 2018 على مدينة عفرين ثم استولى في حملته الثالثة على ما بين تل أبيض ورأس العين عام 2019، ولا يزال الرئيس التركي اردوغان يخطط ويحدث نفسه بحملة رابعة داخل سورية ليستولي على مدينة منبج ومدينة تل تمر ومدينة القامشلي على المحور الاستراتيجي بين حلب والموصل.

إن نهج اصلاح العلاقات بين تركيا وبلدان الجوار والذي تسلكه إدارة اردوغان منذ عام 2021 تغيير تكتيكي وليس نهجاً استراتيجياً.

ولو تهيأ له الأمر في السيطرة على حلب والموصل لطمع في دمشق وبغداد، ولكن عجزه عن ذلك لسَبْقِ إيران إلى حماية حلب من السقوط مع الجيش السوري رغم الملاحم الكبرى التي أطلقها حلفاء اردوغان من المعارضة السورية عام 2016، وسَبْقِ الحشد الشعبي مع إيران والبيشمركة الكردية لتحرير الموصل عام 2017- 2018 منع الرئيس اردوغان من السير في استراتيجيته التي أطلقها عام 2012 في اعادة احياء الامبراطورية السلجوقية.

وكما كان الصراع بين الأسدَيْن فارس والروم في بناء دوائر النفوذ الجيوسياسي في الشرق الاوسط فإن ذلك الصراع امتد عبر التاريخ إلى يومنا هذا بين الري (إيران) والقسطنطينية (تركيا) بغض النظر عن الدين والقومية في كل واحدة منهما. (وهو موضوع دراسة لاحقة عن الصراع التاريخي بين الفرس والأتراك).

لم يزل التنازع قائماً على العراق وسوريا وبلاد الشام وجزيرة العرب ومصر بين فارس والروم ثم بين البويهيين الفرس الشيعة وبين السلاجقة الأتراك السنة ثمّ ما بين الامبراطورية الصفوية الشيعية والسلطنة العثمانية السنية ليبلغ يومنا هذا بين إيران وتركيا.

إن الخسارة الاستراتيجية التي نزلت بالتحالف السعودي- الاماراتي في اليمن بعد تجريده الحملة العسكرية في عاصفة الحزم في مارس 2015 قد أنزلت الهزيمة بالبلدين أمام إيران فجنحت الامارات منذ عام 2019 إلى الموادعة مع إيران وتركت السعودية لوحدها في الحرب باليمن ومقارعة إيران في الشرق الأوسط حيث أصلحت الامارات علاقاتها مع سوريا حليفة إيران وفتحت سفارتها في دمشق منذ عام 2018، فعاندت السعودية وكابرت حتى عام 2023 فلم تجد بداً من الصلح مع إيران ففزعت إلى الصين لإصلاح العلاقة مع إيران فوادعتها في مارس 2023. وبذلك بدأت دائرة النفوذ الإيراني الحصرية بالرسوخ فأبرمت مع العراق المعاهدة الأمنية في عام 2022 ثم عقدت مع سوريا معاهدة التعاون المشتركة الشاملة في أبريل عام 2023. وهي دائرة تحيط بجزيرة العرب من أكثر جهاتها. وقد قالها الجنرال حسين سلامي قائد الحرس الثوري في عام 2019 في الذكرى الأربعين للثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979.

إن خطوط المواجهة كانت في عام 1982 في عبادان وخرم شهر عندما توغل الجيش العراقي في الأراضي الإيرانية، والآن فإن خطوط المواجهة على البحر المتوسط والبحر الأحمر وفي باب المندب تعريضاً بالسعودية وغمزاً من قناتها والإحاطة بها.

كما أن الخسائر الاستراتيجية التي نزلت بالحلف الرباعي (السعودية، مصر، الامارات، البحرين) أمام قطر ودعوة أميرها تميم بن حمد لحضور قمة العُلا لمجلس التعاون الخليجي في يناير 2021 دون تنفيذها شرطاً واحداً من شروط الحلف عليها لوضع القطيعة ورفع العزلة عنها التي فرضوها عليها منذ عام 2017 كانت هزيمة أمام تركيا حليفة قطر في أزمتها مع الحلف الرباعي. فأسرع الشيخ طحنون بن زايد مستشار الأمن القومي لدولة الامارات إلى زيارة تركيا في عام 2021 والاجتماع مع رئيس المخابرات حينها خاقان فيدان والرئيس التركي رجب طيب اردوغان لبدء الحوار بين البلدين وتوطئة السبيل لزيارة وزير الخارجية الاماراتي عبد الله بن زايد ثم زيارة رئيس الامارات الشيخ محمد بن زايد لتركيا والاجتماع مع الرئيس التركي اردوغان في عام 2022 وزيارة اردوغان بعد ذلك لدولة الامارات وفتح فصل من التعاون بين البلدين ليقوم البنك المركزي الاماراتي بمبادلة 3 مليار دولار أمريكي مع البنك المركزي التركي في عام 2022 لدعم الليرة التركية المتهالكة وزيادة الاحتياط النقدي الاجنبي لدى البنك المركزي التركي وانتهاء بزيارة الرئيس الاماراتي الشيخ محمد بن زايد إلى أنقرة في 10 يونيو 2023 للتصديق على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين تركيا والامارات لزيادة التجارة بين البلدين إلى 40 مليار دولار في أربع سنوات.

وكما خفّت السعودية والامارات إلى إيران فإن السعودية قد خفّت إلى تركيا أيضاً لإصلاح العلاقة معها، ورفع الحظر عن بضائعها التي فرضها التجار في السعودية بعد الحملة التي قادتها تركيا للتشهير بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعد قتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باستانبول عام 2018، وصولاً إلى استدراج شركة أرامكو السعودية عقوداً لشركات تركية في مجال البناء بقيمة 50 مليار دولار بعد مبادلة البنك المركزي السعودي 5 مليارات دولار مع البنك المركزي التركي عام 2022 لدعم الليرة التركية.

إن دائرة النفوذ التركية وإن كانت أضعف من الدائرة الايرانية لحداثة عهدها إلا انها ستشمل السعودية والامارات والكويت والبحرين، ولن تحيط بها مثل الدائرة الإيرانية، وذلك بسائق من التوافق في المذهب السني، بل ستشملها في دائرتها خشية من الدائرة الجيوسياسية الايرانية المحيطة المحدقة المتربصة بها.

وهذا هو الدأب منذ ما قبل الإسلام، كلما خشي ملكٌ أو سيدُ قبيلة من فارس لجأ إلى القسطنطينية واستغاث بالروم لينصروه ويمنعوه من فارس وحلفائهم، واتصل ذلك واستمر في العهد البويهي الفارسي والسلجوقي التركي والصفوي الإيراني والعثماني حتى يومنا هذا.

إن انصراف السعودية والامارات عن الاستراتيجية العسكرية بعد اخفاق التحالف العربي في حرب اليمن إلى المشاريع الاقتصادية وتنويع موارد الدخل ومصادر المال وإصلاح الهياكل وتنفيذ المعايير المالية والاقتصادية العالمية ورفع مستوى كفاءة المؤسسات العامة وتنشيط القطاع الخاص ليقوم بدوره الاقتصادي الأساسي وعقد الشراكات الاقتصادية مع الصين والهند وكوريا الجنوبية لن تغني شيئاً ما لم تقترن باستراتيجيات أمنية وعسكرية تحفظ وتصون تلك الاستثمارات الطائلة.

إن اليابان ورغم معجزتها الاقتصادية التي عزَّ مثيلها منذ قرنٍ تقريباً فإنها تحتاج إلى الولايات المتحدة الامريكية لتدفع عنها غائلة صواريخ كوريا الشمالية رغم تخلفها التكنولوجي الكبير عن التكنولوجيا اليابانية التي لا تضاهيها سوى التقدم التقني الأمريكي. إلا أنها بسائق من انصرافها إلى التقدم والازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي والاستقرار السياسي فإن بها حاجة دائمة إلى مظلة أمريكية تحميها وتردع عنها كوريا الشمالية والصين، رغم امتلاك اليابان قوة عسكرية اعظم من القوة العسكرية للسعودية والامارات رغم بطلان قياس الاقتصاد السعودي أو الاقتصاد الاماراتي بالاقتصاد الياباني لعلة التطور التكنولوجي العظيم لليابان واعتماد الاقتصاد في بلدان الخليج إلى عائدات بيع الطاقة الأحفورية لتمويل ميزانياتها ومشاريعها دون نشأة بديل اقتصادي حقيقي عن ذلك إلى يومنا هذا رغم سعي تلك البلدان إلى تنويع مصادر اقتصادها وبناء اقتصادات غير نفطية.

إن العدول المفاجئ للسعودية والامارات عن الاستراتيجيات العسكرية منذ عام 2022 وانصرافها إلى مشاريع التنمية الكبرى لن تدفع عنهما استراتيجيات إيران وتركيا وسعيهما لبناء دوائر نفوذٍ جيوسياسية في جوارهما أو تشملهما.

إن إيران تتحول إلى قوة عسكرية كبرى فوق إقليمية بعد تصديرها مئات الطائرات المسيّرة إلى روسيا لاستعمالها في حربها على أوكرانيا.

ويجوز عملياتياً القول إن إيران تحارب حلف شمالي الأطلسي حيث تقصف طائراتها المسيّرة المعدات والأسلحة التي يقدمها الغرب إلى أوكرانيا وتقوم بتدميرها في ساحات القتال، وتجرد الحملات والغارات الجوية على الدبابات والمدرعات وأنظمة الدفاع الجوي وأنظمة المدفعية الأطلسية في جبهات أوكرانيا. ويقوم الخبراء الإيرانيون بتشغيل تلك الطائرات في ميدان المعركة، ويقومون بتقويم أدائها العملياتي وتطوير وإصلاح أخطائها، وهو ما يرفع إيران قوة استراتيجية فوق إقليمية لن يقيّدها اتفاق الصلح مع السعودية في مارس 2023 من توسيع نفوذها في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي والبحر الأحمر والمحيط الهندي وإحكام بناء دائرة نفوذها الجيوسياسي المحيطة ببلدان الخليج.

وغني عن البيان امتلاك إيران جيشاً كبيراً تسانده قوة نظامية أخرى أشد قوة وشوكة هي الحرس الثوري مع قوات التعبئة ليبلغ عدد القوات الجاهزة للقتال أكثر من مليونَيْ جندي مع امتلاكها قوة صاروخية هي الأكبر والأشد فتكاً في الشرق الأوسط وامتلاك سلاح مدرعات ومشاة هي الأكبر في منطقة الخليج، وإن كانت تعاني عجزاً في سلاح الجو التقليدي فإنها لجأت إلى الطائرات المسيّرة لرتق هذا الفتق في جدار قوتها العسكرية، كما أنها قامت بتطوير قوتها البحرية منذ عدة سنوات فصنعت حاملة طائرات مسيّرة وصنعت حاملة طائرات هليكوبتر أيضاً، وأخيراً كشفت عن صاروخَيْن جديدَيْن في ترسانتها الصاروخية الكبيرة هما صاروخ (خيبر) ومداه 2000 كم وصاروخ (فتاح) فرط الصوتي الذي تبلغ سرعته 6 ماخ وقادر على المناورة داخل المجال الجوي وخارجه.

إن الدول مثل الكتل المادية الكبرى لا يمنعها شيء عن التأثير والفعل الفيزيائي، وكذلك فإن اتفاق بكين لن يمنع الدولة الإيرانية عن التأثير الجيوسياسي في الشرق الأوسط وعن التوسع ونشر النفوذ والهيمنة.

وكذلك تركيا فإن الرئيس أردوغان قد أطلق شعار “قرن تركيا” في حملته الانتخابية الرئاسية في عام 2023، ولن يستقر لها قرار حتى تعيد بناء دائرة نفوذها في الشرق الأوسط ووسط آسيا. ولن تسلّم لإيران بإعادة التشكيل الجيوسياسي فيهما دون أن تنازعها وتشاركها وتنافسها في ذلك أيضاً. وتلك سُنَّةٌ جيوسياسيةٌ ماضية وجارية منذ عهد الأسدَيْن فارس والروم، واتصل ذلك عبر الدورات التاريخية السابقة للنظام الدولي، وسيدوم ذلك في المستقبل ما بقي بلدان الخليج ومصر والأردن من دون مشاريع جيوسياسية حقيقية تجتمع على بنائها وفق استراتيجيات عسكرية واقتصادية، وما رضيت هذه البلدان بالانقياد لأحد الأسدَيْن والدخول في طاعته والتسليم بدائرة نفوذه الجيوسياسية.

غير أن إيران وتركيا ورغم قوة كل دولة فإن لها مقتلاً وموطن ضعف، حيث يُعجز تركيا رهقاً الصدع العميق في مجتمعها وبنيتها الداخلية، وقد ظهر ذلك جلياً للناظر في انتخابات الرئاسة في مايو 2023، حيث ينكر نصفُ المجتمع نصفَهُ الآخر ولا يقرّ له خياراته وآراءه وأفكاره، بسائق من تنافر قومي بين الأتراك والأكراد وتنابذٍ طائفي بين السنة والشيعة والعلويين وتجاحدٍ فكري بين الإسلاميين والعلمانيين.

وكذلك تكابد إيران رهقاً من التنوع القومي والمذهبي حيث تشكو القوميات الأخرى الأذرية والكردية والبلوشية والعربية من هيمنة القومية الفارسية على مؤسسات الدولة، كما يظهر التنافر المذهبي بين الشيعة وأهل السنة حيث تشكو الطائفة السنية ضعفها وقلة حيلتها وغيابها الرسمي عن المؤسسات والإدارات العامة.

إلا أن القوة الخارجية لهاتين الدولتين تستر مواطن ضعفهما والفتوق المنتشرة في مجتمعاتهما وبنيانهما الداخلي.

ولا بد من سدِّ هذه الصدوع الداخلية حتى لا يستثمر منافسٌ أو خصمٌ فيهما فيعجزهما رهقاً عن بناء الدوائر الجيوسياسية الحصرية في النظام الإقليمي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.